قبل إلتحاقك بالجامعة، كان الكثير من الأفكار تعامل وكأنها مسّلمات، لا يسمح لك بنقاشها أو التفكير فيها. ففي المدرسة مثلاً، المدرس يأتي للحصة ليلقي الدرس، ويخرج دون أن يعطي المجال للطلبة لإيقافه أو سؤاله. وأتذكر في حالات كثيرة، لم نكن نحن الطلبة، أو المدرس مقتنعين أو مستوعبين فكرة يتناولها الكتاب. ولكن (لأنها مكتوبة في المقرر المدرسي، فيجب أن نحفظها، ونكتبها في الإختبار).
لن أبالغ وأقول بأن الوضع سيتغير بشكل كلي في الجامعة، ولكن في الجامعة، سيكون لديك مساحة أوسع للتفكير والنقاش. فحتى في المقررات الجامعية، ستجد أراء متعددة وبعضها متعارضة. الخيار لك، ستتعلم هذه الآراء، وستطبق ما تؤمن بأنه هو الأفضل منها، وإن لم يكن هذا في الجامعة فسيكون بعد أن تتخرج. مع مرور السنوات وتقدمك في تخصصك، ستجد بأن المساحة الممنوحة لك للإختيار والمقارنة تزيد. وعند تخرجك من الجامعة، ستكون قد نهلت من المدارس الفكرية المختلفة والآراء المتضادة حيال قضايا تخصصك، ستعرف عيوب ومميزات كل مدرسة، ونقاط قوة وضعف كل رأي. وحينما تدخل معترك الحياة، ستطبق الحل الأنسب والأفضل، وستكون عندك الأدوات اللازمة للبحث عن فرص التطوير والتحسين في عملك.
أساليب المعالجة وطرق الحل، صيغت في بيئات مختلفة، وفي أزمنة مختلفة، ووضعت بعقليات أناس من خلفيات ثقافية مختلفة. فالحل الذي وضعه اليابانيون قبل خمسين سنة وأثبت نجاحه في شركة إنشاءات يابانية، لا يعني بأنه حل ناجح اليوم لشركة مواصلات سعودية. فطبيعة اليابانيين وثقافتهم تختلف عن السعوديين، أدوات العمل والتقنية الموجودة قبل خمسين سنة غالباً لن تكون بذات الكفاءة، والحل الذي أثبت نجاحه في شركات الإنشاءات قد لا يعطي ذات النتيجة في شركات المواصلات. هذا لا يعني بأن تقفل عقلك عن الإطلاع على الحلول الناجحة، لتأخذ منها الدروس. لا تحتقر الأفكار والحلول الغريبة. فأياً كان مصدرها، استوعبها، حللها، تعرف على دقائقها، لماذا صيغت بهذه الطريقة، ولماذا هي عديمة الجدوى أو غير مقنعة. وتأكد بأنه سيأتي اليوم الذي قد تقتبس أو تطور في إحدى هذه الأفكار، أو تدمج فكرتين لتوجد حلاً مبتكراً.
الحكماء أو الخبراء المتقنون لأعمالهم، هم من يصلون لحل المشكلة بسرعة. وفي ذات الوقت، يمتلكون رصيداً من الحلول البديلة، والتي يتجاهلها غيرهم لأنهم يرونها بدائية، لا يمكن تطبيقها، أو عديمة القيمة. ويستخدم الخبير رصيده من المعرفة في توظيف وتطوير حلول جديدة، في حالة فشل حل تقليدي، أو عدم توفر الأدوات اللازمة له. لا يوجد خلطة سرية أو طريق مختصر لصناعة الخبير. ولتصبح خبيراً في تخصصك، يجب أن تبدأ مبكراً وتقرأ وتبحث. الآن يمكنك الاختيار بين أن تكون خبيراً بتخصصك، أو مجرد خريج جامعي كالآخرين. الدراسة في الجامعة كبناء القواعد وأساسات المباني، المحاضرين بعضهم لا يسعه الوقت للتأكد من أن جميع الطلبة استوعبوا المادة، والآخرون قد لا يهتمون. لذلك مسألة التأكد من أن أساسات معرفتك بتخصصك قوية وصلبة، ستكون مسؤوليتك أنت.
تأثير هذا الأسلوب التحليلي في التفكير، سيمتد ليشمل حياتك الشخصية، وسيغير نظرتك للأشياء والأفكار من حولك. ستبدأ بمساءلة نفسك، عن الأفكار والعادات الثقافية التي اكتسبتها من صغرك. لماذا ينظر الناس لهذا التصرف على أنه خطأ والآخر صواب؟ أو لماذا فاعل هذا الشيء ينظر إليه بنظره دونية؟ تلك الأفكار والعادات حتى وإن كان اكتسابك لها تلقين دون شرح للأسباب وراءها، لا يعني بالضرورة أنها خاطئة. لذلك، كن محايداً في نظرتك وباحثاً عن الحقيقة دائماً، أنظر في الحجج وافتح عقلك للرأي والرأي الآخر، ولا تتخذ قرارك إلا بعد أن تعطي المسألة حقها من التفكير وتقتنع بأحد الآراء.
لا تترك للغرور والعجب طريقاً إلى عقلك، فأنت ومهما بدى لك بأنك أصبحت أعلم وأفهم من غيرك، لا تزال جاهلاً بالنسبة إلى آخرين. ارسم حدود ما تعرفه، وما تتقنه، احترم التخصصات، واستمع لآراء المختصين. فكما أنك خبير في مجالك، هم خبراء في مجالاتهم.
الحوار والنقاش مصدر مهم لتلقي المعلومات، والتعرف على الأفكار. ويمكن تعريف الحوار بأنه تبادل شفهي وذهني للأفكار بين عدة أطراف، يستعرض فيه كل طرف الأدلة والبراهين والحجج الداعمة او الشارحة لوجهة نظره، بقصد إيصال فكرة أو إقناع الطرف الآخر بصحتها. في الجامعة ستحاور المدرسين، والزملاء، حول مواضيع الدروس والأمور العامة. وبعد الجامعة، ستحتاج لمهارات الحوار في العمل وفي الحياة العامة. آداب الحوار وأساليبه موضوع كبير ومتشعب، ولكني وضعت لك قائمة بأهم سبعة أمور يجب أن تأخذها بعين الإعتبار أثناء محاورتك لأي شخص. وذلك لتخرج من الحوار بأكبر قدر من الفائدة:
تأكد من معرفتك ومعرفة الطرف الآخر لمحاور النقاش أو موضوع الحوار. أحياناً تأخذنا الحماسة، ونندفع للحديث حول ما نتوقع أنه هو الموضوع، وبعد إضاعة الوقت في إعادة الكلام والأخذ والرد، يتبين لنا أن تصورنا كان خاطئاً. موقفك حينها سيكون سيئاً، وأضف إلى ذلك أن الحوار الذي لا هدف من وراءه، لا يخرج عن كونه جدالاً، ومضيعة للوقت والجهد. ستلاحظ بأنك ومن تحادثه تدورون في حلقات مفرغة، وتتشعبون في نقاط فرعية غير مثرية للفكرة. لذلك ومن اللحظة الأولى، سواء أكان الهدف إقناع الطرف الأخر، الحصول على توضيحات حيال وجهة نظره، أو مقارنة فكرتك مع فكرته، ابق الفكرة الرئيسية حاضرة في ذهنك، ومتى ما أنحرف الحوار عنها، تأكد من إعادته إليها.
أنت تبحث عن المعلومة والفائدة، ولست ساعياً لتحقيق إنتصارات شخصية أو تحطيم الخصم. لن تتمكن من استيعاب الفكرة، إن شخصنت الموضوع، أو بدأت الحوار وأنت تحمل في صدرك غلاً وحقداً على الآخر. في هذه الحالة، لن ترى إلا العيوب، وسينشغل عقلك بالبحث عن الثغرات والأخطاء الشخصية، لتضخمها وتظهر عور ذلك الشخص. المفترض، أن تستمع لفكرته بإنصات، والنظر بعين الحياد والبحث عن الحقيقة. وعندما يتاح لك المجال لتوضيح رأيك، إبدء من نقاط الإتفاق قبل نقاط الخلاف. وبعدها انقد الفكرة، ولا شيء غير الفكرة. فإنتقاد الفكرة بشكل واضح وخال من الهجوم، سيجعل الطرف الآخر، يقتنع بخطأه، أو سيعيد الشرح إن رأى بأنك لم تستوعب الفكرة بشكل جيد. على النقيض، إنتقاد الشخص في ذاته، سيجعله يتحول، إلى موقف المدافع والمبرر، وهنا لن يكون هناك أي تبادل فكري، وستخسر فرصة الإستفادة من علمه. وفي نهاية الحوار الجيد، لا يوجد هناك خاسر ورابح، بل سيفوز الجميع إذا تم عرض الأفكار بشكل جيد، وسيخسر الجميع إذا لم يتمكن طرف من عرض فكرته بشكل جيد.
لا يوجد إنسان، عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم العصمة. فجميع العلماء، مهما بلغوا من العلم، يستمرون في اكتشاف الأفكار الجديدة إلى نهاية حياتهم. وربما بنى أحدهم فكره على إعتقاد، وقبيل وفاته اكتشف معلومة نقضت ذلك الإعتقاد. المقصود ليس احتقار العلماء وتسفيههم، بل دعوة لتوسيع المدارك، واستقبال الآراء المختلفة، وقياسها، فدائماً هناك حل أفضل، وفكرة أكثر عملية. وإن جمدت عقلك، وسلمته لغيرك، ففي الغالب ستبقى تراوح مكانك. وتذكر بأن الخبراء هم من يملكون رصيداً كبيراً من الأفكار والحلول، ويحسنون توظيف الحل الأفضل لأي مشكلة.
أحد أهداف الحوار تبادل المعلومات والأفكار، وليس استعراض كمية المعلومات التي يمتلكها أحد الأطراف المشاركة في الحوار. وقد وهبك الله أذنان ولسان واحد، ولعل الحكمة من وراء ذلك بأن تستمع ضعف ما تتحدث. لا تقاطع الخصم، ولا تسفه فكرته، أعطه المجال للشرح والتوضيح، وفكر فيما يقوله.
أحياناً، نشعر بأن أفكارننا واضحة للآخرين، أو على الأرجح سيتمكنون من استيعابها عند شرحها بعبارة أو مثال بسيط. وهذا في حالات عديدة غير صحيح. الطرف الآخر قد لا يفهم فكرتك، أو لا يستوعب وجهة نظرك ورأيك حيالها، ولسبب أو آخر قد لا يطلب منك التوضيح. لذلك حاول أن يكون كلامك واضحاً، وشرحك للفكرة معبراً، نوع في الشرح استخدم أمثلة من الواقع، استخدم اسلوب السؤال واخذ الإجابة من الطرف الآخر. ولكن لا تسترسل في الشرح والإعادة، فيتضجر صاحبك منك، وربما قاطعك وشتت أفكارك.
يمكننا الحديث والنقاش إلى الصباح، ولكن لا يعني ذلك أننا سنكتسب معلومة مفيدة حينها. عندما يكون الهدف من الحوار واضحاً، لا تشعب الموضوع، وتحاول استعراض معرفتك بإطالة النقاش حول نقاط فرعية. إلتزم بموضوع الحوار، تجنب الإستطراد، وفي حالة استطراد محاورك، أعد الموضوع إلى نطاقه الصحيح.
عندما يتنهي الحوار، بنهاية النقاط المتفق نقاشها، أو بنهاية الوقت المحدد، توقف عن المحاورة. أشكر الطرف الآخر، على معلوماته وتنويرك بأفكاره، وعلى إعطائك من وقته. لا تسأله إن كان قد إقتنع بفكرتك أو لم يقتنع، فأفكارك استقبلها الطرف الآخر، وسيقوم بمعالجتها لاحقاً، وقد يقتنع بها وقد لا يقتنع، وذلك أمر خاص به. وإن كان هناك نقاط غير واضحة أو لم يكفي الوقت لشرحها، استأذن من الطرف الآخر بالإجتماع لاحقاً، لمناقشة تلك النقاط. وأخيراً، فكر في الآراء التي استمعت لها، لا تتشبث ولا تتعصب لرأيك، فأفكاره إن كانت مفيدة استخدمها في فائدتك الشخصية، وإن لم تكن مفيدة، ابقها في ارشيف ذاكرتك لعلك تحتاج إليها مستقبلاً.