في منتصف سنة 2010 حصلت على شهادة البكالوريس من كلية التجارة قسم المحاسبة، المفارقة أن مشوار حصولي على هذه الشهادة إستغرق مني عشر سنوات. ربما أنك تتعجب الآن من هذا العدد من السنوات، فمعظم الطلبة يحصلون على هذه الشهادة في أربع أو خمس سنوات. كان حصولي على هذه الشهادة وخلال هذه المدة، درس قاس من الحياة، ولأني أرغب بمعرفة الأخطاء التي إرتكبتها خلال هذا المشوار، لأتعلم منها ولا أكررها. بحثت عن الأسباب، وحين عثرت عليها، وجدت أن معظمها يتركز حول اتخاذ قرارات خاطئة، أو الإستعجال وعدم التخطيط أو التأني والتفكير في الخيارات التي أتيحت لي مع دخولي للجامعة. فنظام حياتي ولا شك قد تغير بعد إنتقالي من المرحلة الثانوية، ولكني لم أكن مدركاً لأهمية ملاحظة ما يعنيه هذا التغير، وتكيف نفسي للإستفادة منه.
مشوار دراستي في الجامعة بدأ بتخرجي من المرحلة الثانوية في 1999م، وإلتحاقي بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن. في ذلك الوقت، لم أكن قد سمعت عن إدارة الوقت، أو عن أساليب الدراسة في الجامعة. كنت أقول لنفسي، الجامعة هي إمتداد للدراسة الثانوية ولكنها باللغة الإنجليزية. سأركب الموجة مع بقية الطلاب، سأحضر وأستمع للمحاضرات، وبالتأكيد لن أواجه أية مشاكل. سأتخرج خلال خمس سنوات، وبعدها ستنهمر عروض العمل علي، وسأختار وأوقع على أفضلها. وفي الحقيقة، لم أكن أنظر للجامعة إلا في كونها حرية واستقلالية شخصية، واسم (طالب جامعي) لأفتخر فيه أمام الناس.
بدأت الدراسة، وكان كل شيء جميل، الأصدقاء، المكافأة، السهر، والمقاهي والمطاعم، استمتعت بكل لحظة من ذلك الفصل الدراسي الأول. وكعادتها الأوقات السعيدة دائماً قصيرة، بعد مرورها، كانت الفترة من بداية الفصل، إلى الإختبارات النهائية، أشبه بلحظة. وحين إنتهت شعرت بأني كالنائم الذي سكب عليه كوب ماء بارد. سائلت نفسي: (يا إلهي، ما هذا الضغط، ولماذا كل هذه الأعمال متراكمة؟). وكما تتوقع، انهيت أول إختبارات نهائية في الجامعة، ولست فخوراً بما حصلت عليه من درجات. رسبت في معظم المواد، وأصبح علي إعادتها، وبالتالي بدأت الهوة بيني وبين زملاء دراستي ممن نجحوا في الإختبارات بالإتساع. شعرت حينها بالتهديد والخوف، فلا أحد يرغب في مفارقة أصدقائه، ولا بأن يُنظر إليه بأنه راسب أو فاشل. في الفصل التالي، ضغطت على نفسي وحرمتها من أوقات الترفيه، في محاولة مني للحاق والتعويض عن إخفاق الفصل الأول.
على الرغم من التأخر والدرجات المتدنية إلا أن مرحلة السنة التحضيرية، مرت بسلام ونجاح إن صح التعبير. وجاءت مرحلة إختيار التخصص، وعندها ارتكبت الخطأ الثاني. التخصصات المتوفرة أمامي كثيرة، والعديد منها لم أكن أعرف حتى كيفية نطق اسمه. ولذلك أجريت مسحاً سريعاً على اختيارات أصدقائي وما يعتقدونه عن كل تخصص، ثم اتخذت قراراً بالتخصص في هندسة الحاسب الآلي. وكل ذلك، أعني المسح السريع والقرار، تم في خلال ربع ساعة. كم كنت أحمقاً، البعض يأخذ وقتاً أطول لإختيار مطعماً سيتناولون فيه غداءاً، وأنا رسمت مستقبلي وحددت الإتجاه الذي سأسير فيه لبقية عمري في ربع ساعة. بعد مرور بعض الوقت في دراسة ذلك التخصص، اكتشفت المعنى الحقيقي لهندسة الحاسب الآلي، والذي لم يكن حتى قريباً من التصور الذي رسمته مسبقاً. ومما زاد الطين بله، أن ميولي وقدراتي لم تتطابق مع ما يحتاجه المتخصص في ذلك المجال. كابرت عن التراجع، وقلت بأن ذلك كان قراري، والذي يجب أن ألتزم به مهما كانت العواقب. ومن رسوب إلى نجاح على الحفة، انحدر معدلي التراكمي، وتمت معاقبتي بالإيقاف لمدة فصل عن الدراسة.
فترة الإيقاف هذه، أعادت لي ذلك الشعور الذي أحسسته في الفصل الأول من السنة التحضيرية. فيها أعدت النظر في حياتي، وتسألت مع نفسي، لماذا هذا يحدث معي؟ زملاء الدراسة يتقدمون بخطى حثيثة. الذين بدأت معهم في السنة التحضيرية، أصبحوا على بعد سنة أو سنتين من التخرج، وأنا لا أزال في البداية. قطار الحياة يسير ولن يتوقف من أجلي. ثم والأهم من ذلك، هل أنا أحاول الركوب في القطار الصحيح؟ لو عدت ونجحت في الجامعة وتخرجت، هل التخصص الذي اخترته، هو حقاً ما أريده، أم أني أزاحم الناس وأتعب لتحقيق شيء لا أرغب فيه أصلاً. ووصلت لقناعة بأني يجب أن اتخذ قراراً، وبشكل عاجل لتصحيح حالي قبل أن يفوت الأوان.
في تلك المرحلة، كنت قد شخصت مشكلتي وعرفت أسبابها، ولكني لا أدري أين أبدا وكيف أحل العقد. هناك خطأ في أسلوب إدارتي لحياتي وطريقة دراستي، ووضعي الدراسي والحياتي متعقد لدرجة أن محاولة النظر والتفكير فيهما، كفيل بإصابتي بالإحباط لأيام. هل فات وقت العلاج والتصحيح؟ أم أني مستعد للمخاطرة، وبذل جهد مضاعف للإرتقاء بحياتي؟
حينها، لم أكن أمتلك الإرادة والشجاعة لإتخاذ قراراً صعباً، والقيام بتغيرات جذرية في النظام الذي تعودت عليه لسنوات، وسيفرض علي الدخول في تحدي مع نفسي. وفوق ذلك كله، فشل في السنة التحضيرية، وفشل في السنة الأولى في الجامعة، لن أخاطر فأنا لن أتحمل فشل ثالث. وجدت خياراً ثالثاً، كان هو الأسهل، وربما كان نوع من الهروب من الواقع: (لا تعد للجامعة، ابحث عن عمل بشهادة الثانوية!). وكان ذلك، قُبلت في شركة صغيرة كمتدرب لمدة ثلاثة أشهر، مع وعد بوظيفة دائمة عند إنهاء فترة التدريب بنجاح.
تدربت في تلك الشركة مع خليط منوع من الشباب السعوديين، بعضهم خريجي ثانوية، موقوفين عن الدراسة مثلي، وأرباب أسر. أثناء عملنا، استمعت لمشاكلهم في الحياة، شاهدت كفاحهم، وحينها استحقرت كسلي، وسرعة استسلامي أمام أول تحدٍ ألقته الحياة في طريقي. سألني أحدهم يوماً عن قصتي، فحدثته عنها وذكرت بأني قد قررت التوقف عن الدراسة بعد أن أقفلت الأبواب في وجهي، واكتشفت بأني أسير في طريق خاطئ. فكان جوابه: (هل حقاً أقفلت الأبواب في وجهك، أم أنت من يحاول قفل تلك الأبواب؟)، كانت تلك العبارة البسيطة، البداية لمراجعة قرار التوقف عن الدراسة، ومسائلة نفسي، هل كنت مبالغاً في ردة الفعل؟ هل سأستطيع فتح ذلك الباب بعد أن أقفلته؟ عدت للتفكير بالعودة للجامعة، ولكني إلى تلك اللحظة لم أمتلك الجراءة لإتخاذ القرار. ولكن تأبى الحياة إلا أن تلقي في طريقي مرشداً آخر.
بعد إنتهاء البرنامج التدريبي، أرسلت للعمل في فرع الشركة في مدينة الخفجي، وهي تبعد عن محل إقامتي 400 كيلومتر. كنت أذهب لتلك المدينة، وأعود في عطلة نهاية الأسبوع. الطريق كان طويلاً ومملاً، فبدأت البحث عن مسلٍ لي في الطريق. وعثرت على ضالتي في أشرطة تطوير الذات، وإدارة الحياة، ومهارات التغيير والنجاح. ومنها بدأت رحلة العثور على الإجابات وتصحيح مساري في الحياة.
قررت ترك تلك الوظيفة، وتقدمت بطلب لإعادة قبولي بالجامعة، وتم ذلك. ولأن تخصصي الجامعي لا يناسبني بحثت عن بديل، ووجدته. أعدت النظر في أسلوبي في الدراسة وفي إدارة حياتي، بحثت عن الأساليب الأفضل، ووجدت الجواب في الكتب، بدأت اقرأ كتب مهارات الدراسة وإدارة وتطوير الذات. والنتيجة، تحسن كبير في درجاتي في الجامعة، وفي مستوى رضاي عن نفسي. ويمكنني القول أني حينها، شعرت بأني رفعت عيني من النظر تحت قدمي، وبدأت بالنظر للأمام، ووجدت أن الحياة أمامي، وحدودي الأفق.
وافقت الجامعة على أن أغير تخصصي، بشرط أن أحسن من معدلي التراكمي. وعلى الرغم من درجاتي الممتازة، إلا أن درجاتي السيئة التي حصلت عليها بداية مشواري الدراسي، بقيت كثقل أحمله معي، ويحد من قدرتي على رفع المعدل. بعد مرور ثلاثة فصول دراسية، أبلغتني الجامعة بأنها لن توافق على تحويلي للتخصص الذي أرغب فيه، ولي أن أدرس في تخصص آخر تحدده الجامعة. ترددت خصوصاً وأني بعد تجربتي الطويلة، والسنوات التي أضعتها، لم أرغب في أن أعيد تكرار الغلطة الأولى. سألت الله الهداية والمعونة، والحمد لله، جاءني الجواب بفرصة للدراسة بالخارج، فإنسحبت من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. وبدأت دراستي في الخارج من جديد، بفكر جديد، وبإسلوب دراسي جديد، وكان التوفيق من رب العالمين، فله كل الحمد والشكر.
كان نظام الدراسة في الجامعة الأسترالية التي درست فيها، يلزم الطلبة الأجانب بدراسة مقرر تحضيري قبل الإلتحاق بالجامعة. يحتوي هذا المقرر بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية والرياضيات، على مهارات التواصل والكتابة الأكاديمية، ومهارات الدراسة الجامعية. ووجدت في هذه المواد ضالتي، وفكرت فيما لو كانت هذه المواد متاحة لي عندما بدأت مشواري الدراسي، هل سأقع في ذات الأخطاء. وهذا قادني للتفكير في عدد الطلبة الذين قد يعيشون نفس تجربتي السابقة، أو يضعون أرجلهم في بداية الطريق الذي مشيت فيه، ولا يدركون العواقب.
كنت ولا أزال أقول اليوم، (الحمد لله الذي منّ علي، بأن منحني فرصة أولى وثانية وثالثة، ولكن هذا ليس حال الجميع؟ لا بد أن هناك حكمة وراء ما حدث معي!). آمنت بأن ما حدث معي كالدَيَن، قضاؤه مشاركة الآخرين تجربتي، وما تعلمته منها. فإفتتحت مدونتي – مدونة أبوهارون- في سنة 2008م، أثناء دراستي وخصصتها للكتابة عن مهارات الدراسة في الجامعة، وأساليب تطوير الذات. نشرت فيها مقالات، ثم لاحقاً وبإقتراح وتشجيع من بعض قراء المدونة، جمعت المقالات وصنفتها في كتاب، لحفظها ولوصولها لشريحة أكبر من الطلبة.
بعد مرور سنة من افتتاح المدونة، أنهيت الطبعة الأولى من الكتاب أو المسودة الأولى. ونشرتها عبر موقع لولو، لنشر الكتب وبيعها عبر الإنترنت. لم تتعدى النسخ المباعة عبر الموقع العشر نسخ، وقمت بإرسال عشر نسخ تقريباً لبعض متابعي المدونة للتقييم. كنت مقتنع بأن الكتاب يحتاج للتطوير، ولكني لم أملك الوقت لعمل ذلك. اليوم وبعد تخرجي من الجامعة وعودتي، عادت فكرة إعادة صياغة الكتاب، وتحسين المادة، بناءاً على إقتراحات البعض من إطلع على نسخ المسودة الأولى.
وكان هذا الكتاب!