جاسم الهارون

المدونة

06 أكتوبر 2010

نوبة قلبية في 37



لوق، محاضر في الجامعة التي درست فيها، شخص بسيط، عرفنا بنفسه في المحاضرة الأولى وضمن ما ذكر أن وراء قرار التحاقه بالسلك التعليمي قصة. فقال: “بعد تخرجي من الجامعة، بدأت حياتي العملية كموظف عادي في شركة عالمية ضخمة في جنوب أفريقيا. أحببت عملي، وكجزء من طبيعتي، التي قد يراها البعض ميزة والآخرون عيباً، كنت باحثاً عن الكمال. أدمنت العمل، وتفانيت فيه، وبالتالي لفّتُ نظر رؤسائي. إرتقيت في السلم الوظيفي لتلك الشركة، بشكل سريع جداً، وقبل أن أصل الخامسة والثلاثين من العمر، تقلدت أعلى منصب في المؤسسة.. منصب الرئيس التنفيذي!”

ثم أضاف لوق: “ومعها تسارع إيقاع حياتي بشكل رهيب، لا وقت للنوم أو الراحة، ولا وقت للأهل والأصدقاء. مسؤوليات ومتطلبات المنصب كثيرة، كل يوم هناك تحد جديد، لا وقت لدي لإضاعته، فوقتي من ذهب. كنت أقول لنفسي، الفرص كبوالين الهواء، إن أمسكت بأحدها، إرخاء يدك ولو بشكل بسيط، سيغادر البالون ولن تمسك به مره أخرى. نعم، شعرت بالتعب والضغوطات، ولكني أقنع نفسي دائماً، أن هذه هي ضريبة النجاح، وقريباً، سأتقاعد وأتوقف عن العمل.. وحينها سأجد الوقت لأعوض تقصيري في الإلتزامات الحياتيه الأخرى..”

ولكن الحياة لا تسير كما نخطط لها، بعد بلوغه سن السابعة والثلاثين، في أحد الأيام شعر لوق بألم شديد في صدره وأكتافه، وأحس بنبضات قلبه تتسارع.. “هل هذا معقول، هل أنا أصاب بنوبة قلبية، ولكني لا أزال شاباً!”، لم يستطع إجابة نفسه بل غشي عليه…

بعد ساعات، استيقظ لوق في المستشفى، وفي الأيام التالية، بدء إعادة تقييم حياته، هل كان عمله يستحق التضحية؟ هل ذلك المنصب، وتلك الأموال التي حققها كانت أهم من صحته النفسية والجسدية؟.. ولماذا المقعد إلى جوار سريره شاغر؟ أين عائلته وأصدقائه؟!

يعود لوق فيقول: “تلك النوبة القلبية، علمتني أن النجاح في الحياة مركب من  نجاحات متعددة، النجاح الوظيفي أحدها، ولكنه لا يعني شيئاً إن كان النجاح فيه مرهوناً بالفشل في جوانب أخرى من الحياة.” فور خروجه من المستشفى قرر لوق، ترك العمل، والتضحية بالترف والكماليات، والرضا براتب بسيط، مقابل الحصول على الأشياء الاساسية في الحياة، والقدرة على النجاح فيها، كأن يؤسس أسره، وأن يرى أبناءه يكبرون بين يديه. ويقول لوق بأنه بعد سنوات من العمل في الجامعة، يشعر بسعادة كبيرة على إتخاذ ذلك القرار!

النجاح المتوازن!

ما أدركه لوق، أننا نعمل في حياتنا من أجل إشباع غرائزنا الست، وهي:
- الغريزة الروحية: العبادة والصلاة والإلتزام بأوامر الله وإجتناب نواهيه.
- الغريزة الجسدية: الإهتمام بصحة الجسد، والتغذية الصحيحة وممارسة الرياضة.
- الغريزة العقلية: توسيع المدارك، والتعلم والمعرفة بشكل عام.
- الغريزة النفسية: الراحة النفسية، وتصفية النفس عن الحسد والحقد.
- الغريزة المالية: البحث عن مصدر للدخل يكفي عن سؤال الناس.
- الغريزة الإجتماعية: تقوية العلاقات الأسرية وتكوين الصدقات.

أحياناً تغلب إحدى هذه الغرائز على البقية، مما يؤدي إلى سيطرة تلك الغريزة وتجاهل الحاجات الأخرى. فلوق مثلاً، قد تكون غريزة المال والعقل طغت عنده، وأنسته صحة جسده والراحة، عوضاً عن منح بعض الوقت لصلة الرحم وتكوين الأسرة. وبالتالي تراكمت المشاكل الصحية، وفي لحظة انفجزت على هيئة نوبة قلبية، وعندها لاحظ لوق إخفاقه. سبب تلك النوبة، عدم إهتمامه بصحته وعدم إعطاء نفسه حقها من الراحة، ولأنه لم يقف مع أصدقائه وأهله، لم يجد أحداً إلى جواره في المستشفى. وبدء بعدها محاولة التصحيح.

بشكل عام، لكل غريزة من تلك الغرائز، حد أدني، نزولك تحته يعني أنك إنسان مقصر ومخفق في تلبية حقوق تلك الغريزة. فبدون صلاتك أنت مخفق في الجانب الروحي، وبدون التغذية والراحة الكافيه ستنهك جسدك ونفسك، ولو تركت القراءة أو الممارسة في مجال تخصصك لفترة ستصبح جاهلاً فيه، وبالطبع ستغرق في الديون إن لم تجد عملاً يغطي مصاريفك الأساسية ويكفيك سؤال الناس، وأهلك واراحامكم لهم حق الزيارة وإن لم تكن جوارهم في السراء قد لا تجدهم في الضراء.

النجاح المتوازن في الحياة يعني أنك ستنجح في تلبية الحد الأدنى لجميع تلك الغرائز، وفي نفس الوقت ستبرز في غريزة على الأقل، دون المبالغة في الإهتمام في أحدها.

وبالنسبة لنا كمسلمين، الغريزة الروحية تطغى وتتسيد بقية الغرائز، وتضع الحدود للحدود الدنيا، وما يعد مبالغة في الإهتمام، لو تذكرنا ذلك وعمله به، لما وجدنا إختلالاً في تحديد الأولويات وتقسيم الجهد والوقت على تلك الغرائز.

في النهاية!

لو نظر كل منّا في نفسه، لوجد “لوق”، جميعنا مقصرين في بعض الجوانب، ومفرطين في أخرى. معرفة الجوانب الست السابقة سيساعدك في اكتشاف ذلك الإفراط والتفريط، وفرص التطوير. وتذكر أن سيء الحظ، من عاش حياته، بشكل غير متزن، إلى حين أن جاءته أزمة، شبيهة بأزمة “لوق” القلبية. قد يكون لها جانب سيء، ولكنها قد تفتح عينه وتساعده على تصحيح مساره.. لكن الأسوء حظاً، من لا تأتيه تلك النوبة، فيعيش بحياة غير متزنة، أو تأتيه الأزمة متأخرة، فلا يكون التصحيح خياراً ممكناً.. أو أن قلب لوق قد لا يخفق من جديد!