جاسم الهارون

المدونة



أثناء جلوسي في ساحة الجامعة وانتظاري للإختبار، اقترب مني شخص أسترالي. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها، فـ”دين” يعرفه معظم المنتسبين للجامعة من طلاب وموظفين. أخرج علبه سجائره، وقال لي: “هل يمكنني الجلوس بجوارك؟” قلت له: “نعم، بكل تأكيد!”. ابتسم وجلس إلى جواري ثم بادرني قائلاً: “أريد أن أخبرك بقصتي.” طبعاً لم أستطع أن أقول له لا، فأبتسمت وبدأت بالإستماع.

قال لي أنا اسمي “دين جوردون”، عمري 41 سنة، وأنا طالب في الجامعة منذ سنة 1996. أدرس تخصص “المعلومات العامة”، وسأتخرج في سبتمبر القادم (2009). وبعد تخرجي سأبدأ دراسة تخصص “الإستشارة”، لكني لا أعرف متى سأتخرج من هذا التخصص، فأنا لا أستطيع دراسة أكثر من مادتين في الفصل الواحد. أنا أحب الجامعة والمدرسين والطلبة، فهم كانوا خير عون لي خلال سنوات دراستي ال12. أعرف أنه يدور في خاطرك لماذا شكلي يبدو مختلفاً وحركتي بطيئة ولساني ثقيل، أنا لم أولد هكذا!

كنت أحب لعبة الركبي، فهي اللعبة الشعبية الأولى لنا نحن الاستراليين، مارست اللعبة وأتقنتها حتى أني وقعت عقداً مع أحد الأندية المشهورة في دوري المحترفين. وفي إحدى المباريات تعرضت لإصابة في الرأس، دخلت على أثرها في غيبوبة، صحوت بعدها بخمسة أسابيع وأنا لا أعرف كيف أمشي أو أؤدي مهامي اليومية. لسبعة أشهر تالية بقيت في المستشفى لتتم إعادة تأهيلي. لكن بعض ما خسره بسبب تلك الإصابة لم يستطع استعادته، فقد اخبرني أن خطيبته التي كان قد أهداها خاتم خطوبة بـ 1000 دولار، تركته لأحد أصدقاءه. بل إنها لم تعيد له الخاتم، وقامت بسحب مبلغ 2000 دولار من الحساب المشترك بينهم.

يقول في البداية شعرت بالغضب، وودت بالإنتقام منها ومن صديقي. ولكني تراجعت عن ذلك بعد التفكير، والآن أشعر بأن ذلك الحادث قد يكون أفضل ماحدث لي، فقد غير طريقة تفكيري وشعوري تجاه الناس والعالم. وكنتيجة لذلك، بدأت أحب كل الناس والحياة، وأسعى لأن أتحصل من حياتي على أقصى ما يمكنني.

توقف للحظة، ثم نظري إلى وقال لي: “أنت مسلم عربي، صحيح؟”، قلت له: “نعم”. قال أذكر أن أحد زملائك ويدعى محمد قدم للسكن الداخلي للجامعة، وحين حل في السكن كان كل من في السكن لا يتحدثون معه، لأسباب عنصرية. زميلك هذا تقربت منه وحادثه، لأني أؤمن بأن الناس سواسيه وأنه لا يجب معاملتهم بناء على فرضيات وما ينشر في الإعلام. وفي فترة قصيرة أصبح صديق مقرب مني، وكنّا نخرج سوياً إلى أن تخرج محمد من الجامعة. (بالمناسبة أنا أعرف محمد حقيقة وكان قد حدثنا عن دين).

بعدها جلسنا نتحدث في أمور عامة، وودعت دين وذهبت لإختباري. حقيقة لا أستطيع وصف شعوري وأنا أفكر في حديثي مع دين. فهو إنسان إرتقى سلم الحياة وأصبح مشهوراً ومحترفاً للركبي، ثم تحطمت حياته كلها، وخسر فيها كل شيء، عقله، خطيبته، ماله، وظيفته… ومع أنه يعتبر معاق، ويمكنه متابعة حياته عائشاً على المساعدات الحكومية، التي تمنحها للمعاقين وغير القادرين على العمل، إلا أنه آثر أن يتعلم. مع علمه بأن عقله وجسده لن يساعداه في ذلك. تعلم ودرس، بدأ مرحلته الجامعية قبل 12 سنه، أي أنه بدأ في وقت كان بعض من يقرأ هذه السطور في المرحلة الإبتدائية، أو المتوسطة، أو قد يكونون لم يولدوا بعد. ثابر وصبر وأجتهد، واليوم يقارب من التخرج، وهو فرح بهذا الإنجاز. ويحق له أن يفرح!

سأختم ببعض ما قاله في مقابلة أجرتها معه الجامعة قبل ثلاث سنوات:
كل ما أريد تحقيقه أن أساهم في المجتمع كفرد عامل ومستحق لما يقبضه من راتب.
أصعب جزئية هي أن أتعلم كيف أقدر نفسي مرة أخرى، وأتمنى أن في تخرجي من الجامعة ومساعدتي للآخرين أثناء سنوات الجامعة سيساعدني في ذلك.
أنا أحب بث السعادة على قلوب الآخرين، وأعتقد أن ذلك هو ما ساعدني على تخطي الأوقات الصعبة في حياتي.
أعلم إن قدماي لن تساعداني على الرقص مرة أخرى، ولكن في النهاية أنا أمتلك الكثير من الأصدقاء وكل ما أرغب في تحقيقه هو التخرج من الجامعة والقدرة على المساهمة في المجتمع.

أثناء بحثي عن صورة له لأضيفها للموضوع، وجدت فيديو يتحدث فيه عن قصته (طبعا هو يقولها باللغة الإنجليزية):