شهدت السنوات الأخيرة تغيرات كبيرة في قطاع التجارة والأعمال. كحال الكثير من الأمور المرتبطة بالتقنية والإنترنت هذه التغييرات متسارعة، وبالتالي قد يصعب على المشاهد تتبع التغير، عوضاً عن مواكبته. وكما هو ملاحظ رغبة من الدول العالم الإستفادة عوائد التغير، والحصول على حصة قبل فقدان الفرص، أنشئت مبادرات عديدة في منطقة الخليج والوطن العربي، لدعم الشباب والراغبين في بناء هذا الإقتصاد الجديد، الذي يعتمد بشكل كبير على المشاريع الصغيرة والأفراد كعناصر، والتقنية والإتصال كرابط ومحرك.
قبل أيام أعتمدت هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة، آلية تصنيف المنشآت إلى متناهية الصغر، وصغيرة ومتوسطة. ولأن السوق يبنى من القواعد إلى القمة، فأصحاب المشاريع في الغالب يبدأون من نطاق الشركات الصغيرة أو المتناهية الصغر. يشترك في بناء هذا السوق (سوق المنشآت الناشئة) ثلاثة أطراف: المؤسسين، الجهات التشريعية والتنظيمية، والجهات الداعمة. كل جهة لها دور مهم وأساسي في بناء السوق واستقراره.
في هذا المقال سأبدء بإذن الله تعالى سلسلة مقالات تساعد في التعريف بتركيبة السوق، وإستقراء بيئة المنشآت الصغيرة، وكيفية تنمية المنشآت لتحقيق أهداف كل طرف من الأطراف الثلاثة، المؤسسين، المشرعين، والداعمين. والهدف التوعية أولاً، ثم المساهمة في تحقيق رؤية الوطن ٢٠٣٠م بنقل إعتماد الإقتصاد من قطاع النفط، إلى قطاعات أخرى منتجة ومساهمة.
من أكثر المصطلحات ارتباطاً بالمشاريع الصغيرة، مصطلح ريادة الأعمال. قلما تجد شخصاً أو جهة تتحدث عن المنشآت الناشئة، دون أن يشير إلى مصطلح الريادة والمشاريع الريادية وريادة الأعمال. فما هو المقصود بالريادة وهل هي فعلاً شرط لنجاح المشروع؟
ريادة الأعمال يقصد بها الترجمة لكلمة Entrepreneurship، وهناك الكثير ممن حاولوا وصف هذه الصفة وشرحها، وربما تكون الصفة الأعم هي في مجابهة التحدي والإصرار على النجاح. ومن اجمل من حاول تعميم وتقنين الصفة كان الدكتور جمال العقاد الذي ذكر في حديث سابق معه أن الريادة هي جامعة لعدة صفات أهمها: العصامية، الإبتكار، والمبادرة.
- العصامية فهي القدرة على بناء الذات من الذات ودون الإعتماد على عوامل خارجية كالورث، أو المركز الإجتماعي. التحدي هنا عدم توفر الدعم الخارجي، سواءاً المالي أو المعرفي. ولكون أساس المشاريع يكون بالمال أو المعرفة، فهذا النوع من الريادة هو الأصعب لما يتطلبه من الجلد والصبر. الأمثلة هنا كثيرة ومشهورة، ربما لأن نجاح أصحابها كبير، وأيضاً ربما لأن الآخرين يحبون ذكر هذه الأمثلة لأن في ذكرها تبرير لتهربهم من المسؤولية وإلقاء كامل الحمل على صاحب المشروع. أحب أن اذكر قصة عبدالإله الدباس مؤسس شركة باجة للصناعات الغذائية، والذي بدأ مشروعه من سيارة نقل لبيع المكسرات في سنة ١٩٩٧م ليغطي كافة منطقة الخليج العربي في سنة ٢٠٠٨م.
- الإبتكار وهي القدرة على رؤية المألوف من زوايا غير مألوفة، والوصول إلى أساليب وأفكار سباقة. التحدي هنا في اقناع المستخدم في تغير المنتج أو طريقة العمل لطريقة جديدة، وذلك من خلال تبسيط العملية التجارية أو توفير في تكلفتها. من الأمثلة هنا أوبر، فعملية تحويل المنتجات التقليدية البسيطة إلى منتجات تدار وتوجه بشكل آلي، عملية صعبة تقنياً وأيضاً في تحويل مقدمي الخدمات والمستخدمين من الإتصال الهاتفي أو الإشارة باليد إلى ضغطة بالجوال عملية ليست سهلة إطلاقاً.
- المبادرة تتمثل بالإقدام والمخاطرة ودخول مناطق غير مستكشفة أو مجربة من السوق. التحدي الرئيسي هنا هو إقناع العملاء بخوض تجربة أو شراء منتج جديد، لم يسبق لهم عملها. خذ مثلاً مشروع رقمنة، وهي شركة متخصصة في مجال التجارة الإلكترونية وتعمل على تحويل شركات التجزئة التقليدية، إلى متاجر إلكترونية. عندما تأسست الشركة في سنة ٢٠١٢م، لم يكن هناك ما يثبت بأن محلات التجزئة ستقبل بتبني التجارة الإلكترونية، وهناك تحديات كثيرة من أنظمة الدفع والتوصيل والدعم اللوجستي. فإقدام يزيد الطويل على تغير تفكير العملاء وإقناعهم بالتحول وحل مشاكلهم عمل ريادي. وهناك أمثلة أخرى عديدة. طبعاً قد يلاحظ تداخل بين المبادرة والإبتكار، ولكن الفرق الرئيسي هو أن الإبتكار يعنى بايجاد الفكرة الجديدة، والمبادرة هي التبني المبكر لها.
قد تجتمع كافة الصفات في شخص واحد ولكن ذلك أمر نادر الحدوث.
تنسب إلى ستيف جوبز مقولة شهيرة فيها: (الفنان الجيد ينسخ، والفنان المتميز يسرق)، وعندما تم سؤاله عن معنى ماقاله، أشار بأن الفرق في أن النسخ يعني التقليد الأعمى، أما السرقة فهي التقليد بذكاء. وهذا يساعدنا على فهم الفرق بين ريادة مؤسس أوبر وريادة مؤسس كريم. فأوبر مبتكر لفكرة توجيه سيارات الأجرة، وهو الذي عمل على نقلها ونشرها في العالم. ولكن كريم تمكن من سرقة الفكرة بنجاح من خلال النظر في الفكرة، وإعادة التفكير في طريقة إنجاحها في منطقة الخليج. بالتالي كان هو ريادي مبادر في إدخال فكرة توجيه سيارات الأجرة بطريقة يتقبلها المستخدم في المنطقة. والنتيجة تبني لفكرته المعدلة بشكل أسرع في المنطقة.
أيضاً ومن زاوية أخرى، يمكننا المقارنة بين ريادية أول من قدم مشروع حلويات (تمرية أو كب كيك) في المنطقة، وبين قلده بذكاء وطور المنتج، ومن أتى بعدهم. قد نتفق على أن التقليد أو النسخ الأعمى قد لا يكون إيجابياً، ولكن الإبتكار أو الأسبقية لا تعني بالضرورة الأفضلية المطلقة. فهناك أمثلة لإبتكارات عديدة، فشل المخترع في اختراق السوق، من نجح في تحويلها لمنتجات يتقبلها الزبائن كان أحد المقلدين بذكاء (السارقين حسب ستيف جوبز). من هذه الأمثلة السيارة الكهربائية، قارئ الميديا أو mp3.
من هذه المفارقات يمكننا القول بأن الربط بين الريادة والمشروع أو الشركة هو أمر غير صحيح. فالريادة هي صفة لصاحب المشروع. فهو من يخلق الفكرة الجديدة كإبتكار، ثم يقوم هو أو غيره بتطويرها، أو طرحها بشكل جديد أو في سوق جديد. وهؤلاء هم الرواد.
هذا السؤال مهم ليس أن تعرف إجابته فقط، بل وأن تبقيها أمام عينيك طوال مشوارك. الإجابات كثيرة على هذا السؤال، فما يدفعنا للمحاربة والمقاتلة عديدة منها إرضاء الذات، تهيئة المعيشة الكريمة للأبناء، ترك بصمة في التاريخ. ولكن تذكر أن يكون الدافع نابع من داخلك، فمشوار الريادة مليء بالإحباطات، والرفض، والتحطيم. والدوافع الخارجية كالتشجيع والإحتفاء، قد يتوفر لك، ولكنه لن يكون متوفراً لديك دائماً. لو كان هدفك من الريادة أن يعرفك الناس كرائد، وأن يتم تقديمك في المحافل كنموذج، فتأكد بأن هذا أمر مؤقت. فالناس تمل وستنصرف لغيرك، ما يساعدك على مواصلة النجاح هو أنت ولا أحد غيرك.