جاسم الهارون

المدونة

05 نوفمبر 2008

غموض الطيران



هذا مقال من مجلة النيويوركر، في قسم الإيمان والشك. قرأته وأعجبني وأحببت أن أنقله لكم.

المقال كتبه: محمد ناصحو علي.

منذ طفولتي، وأنا اعيش بين عالمين مختلفين: عالم الإسلام، وعالم الغرب المسيحي. نشأت في كوماسي، غانا. في أيام الأسبوع، كنت أدرس في مدرسة كاثولوكية للمرحلة المتوسطة؛ وفي أيام عطلة نهاية الأسبوع كنت أحضر “المدرسة”

<أعتقد أنه يقصد الكتاتيب>

، وفيها أحفظ بعض أجزاء من كتاب المسلمين المقدس، القرآن.

“مدير”، أو رئيس، المدرسة، والذي كان في نفس الوقت عمي، اسمه “أستاذ سلمان”. الأستاذ كان رجل صاحب علم ديني واسع وحكمة عظيمة، ولعل ذلك جعل منه في بعض الأحيان، عديم الصبر وشديد العصبية، على الطلبة البطيئي الفهم وحتى من يعاني من مشاكل في التعلم منهم. ولكن، على الرغم من كثرة أطباع عمي العدوانية والغريبة، إحدى أطباعة بقيت في ذهني، وهي علاقة “الحب والكره” مع الغرب.

كان هذا رجل “الأستاذ” يتابع الصحيفتين الرئيسيتين الصادرتان باللغة الإنجليزية في البلد، وأيضاً يستمع إلى إذاعة أخبار البي بي سي ثلاث مرات في اليوم، كما لو كان الإرسال من “بوش هاوس”، لندن، أكسجين يتنفسه. كان غالباً ما يظهر الإعجاب بإنجازات الغرب في العلوم والتكنولوجيا، ولكن كان دائماً ما يصر على أن جميع التطور في الغرب لم يستطع التغلب على الموت. في أحد الأيام، سمعت حواراً يدور بينه وبين “المدير المساعد” أن عدم إيمانه بالغرب بدأ من الحقيقة البسيطة أن “الرجل الأبيض” لم يستطع أن يجعل الكهرباء لا تسبب صدمة كهربائية لمن يلمسها. من وجهة نظر عمي، أي شيء يعطي الضوء، والطاقه وحتى الحياة لا يجب أن يتسبب بالأذى أو الموت. ذلك الفشل السابق وحده كان سبباً في جعل عمي يشك في مدى تحضر الغرب.

شكوك عمي، غير واقعية كونها لا تستند على المنطق أو العلم الديني، على أساس أن علوم الغرب لا يمكن أن تصل إلى الكمال؛ لأن الكمال لا يمكن بلوغه إلا من قبل واحد “الله” ولا أحد غيره. وإلى الآن لم يؤمن بأن الغرب أصبح قريباً من الكمال في مجال الطيران. وكان يبدي تعجبه من أن شيئاً ثقيلاً كالطائرة، مع كل ما تحمله من حمولة، بإمكانه البقاء في الجو لمدة طويلة. في الحادية عشر من عمري تقريباً، بدأ عمي بنشر نظريته التي كانت تقول: “الطائرات تتمكن من الإقلاع من الأرض والبقاء في الجو فقط لأن مهندسي الطيران في كل العالم يقرؤن آيات معينة من القرآن قبل أن تقلع أي طائرة. في سنة 1982، عمي “الأستاذ” رحل إلى نيجيريا بالطائرة، وعند عودته، إدعى أنه رأى شيئاً أثبت نظريته: أحد مهندسي الطيران، “رجل أبيض”، وضع يده على عجلات الطائرة وقرأ بصوت عالي أجزاء قصيرة من القرآن أثناء إستعداد الطائرة للإقلاع. بعد فترة، قصة المهندس الذي يقرأ القرآن على الطائرة أصبحت قصة إيمانية في مجتمع المسلمين في مدينتنا؛ وفي النهاية أصبحت دليلاً على عجز الرجل الأبيض بدون مساعدة الله العظيم.

في سنة 1988، تركت غانا للدراسة الثانوية وبعدها الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا، إكتشفت أن ما كان يقوله عمي سببه الخوف والسخرية، وعدم القدرة على إستيعاب الظواهر التي كان يشاهدها. الآن، بعد عشرين سنة في الولايات المتحدة، على بعد آلاف الأميال من “مدرسة عمي”، توصلت إلى نظرية أخرى عن الإيمان. لا أزال أؤمن بالدين الذي ولدت وأنا احمله، وإن كان ذلك بنظرة فلسفية أعمق؛ أنا أثق بالأديان الأخرى، وأؤمن بالعلم والتكنولوجيا. وأيضا، مثل عمي، وجدت أن حقيقة الطيران بالطائرات يثير إعجابي. ولكن، على الرغم من إيماني الحازم بالعلم (أنا عادة أثق، عندما أستخدم الطائرة، بأنها ستحط بأمان على الطرف الآخر)، ترودني شكوك بأن أي شيء ممكن أن يحدث، الطائرة وتعقيداتها، نظام الطائرة المحكم قد يفشل بسبب الجو أو الطقس وقبل ذلك غضب أو رحمة الله تعالى.

من حسن حظي، هذا الخوف، بدل أن يلهمني بنظريات مثل عمي، قادني إلى إلى أن الايمان والشك مثل التوائم الملتصقة. إيمان وإخلاص أحدهم لفكرة أو شيء ما لا يعني بالضرورة إنعدام الشك حول ذلك الشيء أو الفكرة، بسبب الحقيقة التي لا يمكن إنكارها وهي أن لا شيء كامل -أي شيء على سطح الأرض معرض لقوى خارجية تغير من مقصده أو من طبيعة عمله. أتذكر سماعي لأحد مسؤولي “ناسا” في مقابلة قبل عملية إنطلاق مركبة فضائي. “قمنا بعمل كل ما يتوجب علينا عمله من جانبنا”، قال المسؤول لوكالات الأنباء. “قمنا بكتابة الحروف وتنقيطها، والمركبة جاهز للإنطلاق. الآن امر المركبة معلق بقدرة الله وبحسن الجو.”

<الصحيح أن يقال ..ثم بحسن الجو>

**أرجوا أن تلاحظوا أن الأيمان والشك التي يقصدها الكاتب في مقاله، هي الإيمان والشك في النظريات والأفكار البشرية.